سامري ... ومجروح
بقلم عماد حنا
حتى من يناصبنا العداء
يحتاج الى المسيح
انه ببساطة مثل كل الناس
يحتاج الى تغيير .. الى أن يخلق خليقة جديدة
انه مجروح.. فهل تكون بالنسبة له
سامري؟
عندما دخلت إلى محطة الوقود القريبة من بيتنا كي أتزود بالوقود لسيارتي لم أكن قد سمعت بالحادث المؤسف الذي حدث لصاحبها، في الواقع أنني لم أكن معتاداً على ارتياد هذه المحطة لعلمي السابق بكراهية صاحبها لي. ولولا انشغالي الشديد في هذا اليوم وحاجة سيارتي الشديدة للوقود لما دخلت هذه المحطة، فصاحبها شخص متعصب لإيمانه ولا يحب من هو مثلي واضعا في ذهنه أن صاحب الديانة الحقيقية هو من يردد الشهادتين. وإيمان الرجل يتحدد بطول اللحية واللباس الأبيض أما أنا صاحب اللباس الأوربي والذقن الحليق فعميل غربي لا أفقه في العبادة ولا علاقة لي بالله مطلقاً، فأنا كافر بالنسبة له. لذلك كنت لا أسلم من لسانه السليط وسخريته اللاذعة كلما جئت لأزود سيارتي بالوقود.
ولكن اليوم كانت سيارتي تحتاج إلى الوقود بشده ولا مجال لأن أقودها لأبعد من ذلك فدخلت المحطة وأنا أصلي إلى الله أن يعطيني روح الصبر والتسامح في تحمل دعاباته السخيفة. وعندما دخلت وجدت ابنته الشابة وهي تقف أمام الوقود تزود السيارات على غير العادة. وعندما نظرت إليها وجدت عيناها وقد تورمت من البكاء إلي حد فظيع مما استرعى انتباهي فبسرعة نزلت من سيارتي واتجهت إليها قائلاً:
- ماذا حدث يا بنيتي؟ أين والدك؟
- ألم تعلم بالحادث يا سيدي القس؟
- كلا، ماذا حدث؟
- لقد وقع بالأمس في مرجل القار المغلي، وأخرجناه إلى المستشفى في حالة يرثى لها. وهو بين الحياة و الموت .. وكل عائلتي لديه الآن ..
ثم صرخت باكية:
- والدي يموت يا سيدي القس.
نظرت إليها في شفقة وربت على كتفها قائلاً:
- هون عليك يا بنيتي، آن رحمة الله واسعة.. زوديني بالوقود سريعا وأعطيني عنوان المستشفى حتى أذهب إليه.
- لا داعي يا سيدي، سيظن أنك شامتاً فيه وسيمطرك بالكثير من السباب.
- بسرعة يا بنيتي كي لا أتأخر.
… وخرجت من محطة الوقود وأنا ملئ بالمشاعر، ذلك الرجل السليط اللسان كانت آخر مرة تعاملت فيها معه كانت من خلال ابنتي الصغيرة، في الأسبوع الماضي، كانت الدنيا شتاء والبرد قاس، والثلج قد ملأ المكان، ولم يكن بالبيت أي جاز كي يملأ المدفأة كي نستدفئ في تلك الليلة الشديدة البرودة. فألبست ابنتي الصغيرة الكثير من الثياب وأعطيتها قنينة جاز وأرسلتها إليه كي يمدني بالجاز الذي يدفئ ليلتي الباردة. وعندما ذهبت اليه أمطرها بوابل من الشتائم ورفض أن يعطيها الجاز رغم أن معها ثمنه وطردها قائلاً:
- دعي والدك الكافر يجعلك تستدفئي بصلاته.
وعندما ولت راجعة تابع صراخه فيها قائلاً:
- أو ربما يميته الله في هذه الليلة فيستدفئ هو في نار جهنم. وقتها أعطيك أنا الذي يدفئكم أنتم.
… لم أعرف السر وراء غلظة قلبه وسلاطة لسانه، لم أفهم .. كان الرجل صعب المراس جدا ولسانه سبب له في مشاجرات كثيرة. ووقع في أزمات كثيرة ولولا موقعه المتميز لفقد الكثير من زبائنه.
والآن ها هو قد وقع في الزيت المغلي، لم أفهم كيف رغم أن البنت شرحت لي ولكني لم أستطع أن أتخيل الموقف. ولكني عرفت أنه فقد جلده كله، ويعيش في ألم مبرح منذ الأمس. وفرصته في الحياة شبه معدومة.
***
وصلت الى المستشفى وبسرعة اتجهت الى قسم الحروق، كان الجو متوتراً جداً، والعائلة كلها كانت متجمعة، بسرعة دخلت اليه وما أن رآني من بعيد حتى صرخ:
- أخرج من هنا، هل جئت كي تتأكد من موتي يا عميل الشيطان.. ابتعد ..
وكان صوته عالياً فخرجت مسرعاً حتى لا تكون هناك فضيحة داخل المستشفى ولكني ذهبت الى الطبيب وسألته عنه فقال لي:
- لقد فقد الكثير من جسده، وحياته شبه منتهية، ولكنه الآن يحتاج إلى كثير من الدم خلال فترة قصيرة.
- أستطيع أن أعطيه.
- نحن نقوم ببذل مجهود بلا أمل، وهو كلما يعيش أكثر يتألم أكثر فلو تركناه...
قاطعته وقلت بسرعة:
- تكون قد ارتكبت جريمة في حقه يا دكتور، المحاولة هي أهم شئ وليفعل الله ما يراه مناسباً.
- لست أدري ماذا تفيده أن أزوده من عمره تلك الساعات القلائل، هو سيعيشها في ألم، لولا المسئولية لكنت قتلته رحمة به.
- أنت لا تنقص أو تزيد من عمر أي إنسان يا دكتور، هو الرب، ومن يدري، فقد يحتاج المرء إلى دقائق قليلة تغير مصيره كله يا سيدي الطبيب، وليس من حق أي إنسان أن ينقص ثانية واحدة من عمر إنسان آخر، في شريعة السماء هذا أسمه قتل.. هل ستأخذ مني الدم؟
نظر إلى ساخراً وقال:
- يبدوا أنك تحبه كثيراً، هل هو قريبك؟
- نعم.. هو قريبي.
- ما صلة القرابة؟
- أنا سامري, وهو مجروح.
- لم أفهم صلة القرابة؟
- الكتاب المقدس يحدثنا عن رجل كان ملقى على الأرض بين الموت والحياة ووجده سامرياً، فأنقذه ولقبه المسيح أنه قريبه، رغم حالة العداء من جهة الجسد
- إذن، أنت عدوه من جهة الجسد؟
- هو يقول.
- لكنك لن تنجح في إنقاذه!
- من يدري؟
***
ساعات تمر وأنا جالس أمامه في المستشفي، لقد سحبوا مني الكثير من الدم.. وهو الآن في غيبوبة الله وحده يعرف متي يستفيق منها.
وفجأة فاجأتني صرخة هائلة، ألم فظيع يشعر به ذلك الرجل.. كان الله في عونه.. اتجه بنظره إلى ولكنه لم يصرخ.. بل قال:
- أنت لا زلت هنا؟!
- كيف حالك أيها البطل؟
- أنت أعطيتني دماً.. أليس كذلك؟
- نعم
دمعت عيناه تأثراً وقال:
- لماذا.. لماذا لم تتركني أموت؟
وتحولت الدموع إلى بكاء.
تقدمت جهته وقلت:
- كيف أتركك تموت الآن .. وأنت شخص عزيز جداً علي وأيضاً عزيز في عيني الرب.. هل تعلم أين أنت ذاهب إذا انتقلت الآن؟!
- إلى الجحيم!
قالها صارخاً.. فقلت له:
- هل رأيت عذاب الحرق؟ .. هل تستطيع أن تحتمل هناك، وإلى الأبد؟
لم يتكلم بل عيناه أخذت تدمعان، ثم راح يهذي قائلاً:
- هو الثمن.. ثمن الخطايا والأعمال الشريرة الذي يدفعه كل إنسان .. كلنا سنذهب إلى هناك .. أنت وأنا
- ولماذا تكلف نفسك عناء دفع ثمن خطاياك وهناك من دفعها عنك يا رجل.
- يسوع؟
- أنت تعرفه؟
- ومن لا يعرفه.. نبي عظيم عاش وعمل الكثير من المعجزات وأراد اليهود قتله فرفعه الله اليه لطهارته
- أنت لا تعرفه إذن
- أعرف الله وحاولت ارضاؤه بكل قوتي
- وهل أرضيته؟
- أعرف أنني حاولت أن أرضيه، ولكني لا أثق في هذا الآن، بداخلي شئ غير راضي عنه.
- لذلك اتهمت الآخرين بالكفر ورحت تعادي كل من هو في غير دينك اليس كذلك؟
- أعرف أن أعمال لن تدخلني السماء.
- ولا أعمال أي شخص، كلنا عبيد بطالون، كلنا حاولنا وفشلنا في هذا يا رجل.
صرخ قائلاً:
- قلت لك أن كلنا لنا مصير واحد
- أتذكر الصليب؟
نظر إلى ولم يجب، فأكملت:
- كم شخص صلب مع المسيح؟
قال لاهثاً:
- عيسى لم يصلب.
- بل لقد صلب، وصلب معه رجلان والتاريخ كله يشهد على هذا، وعندما آمن به شخص مصلوب قال له يسوع: اليوم تكون معي في الفردوس.
هو يريد أن يقولها لك .. افتح قلبك يا رجل.. صلي إلى الله واطلب غفرانه، سلم له حياتك.. لقد بقي القليل.. أطلب منه أن يستلم ذلك الجسد المحروق والنفس المريضة..هو يريدك كما أنت يا رجل..
- لم أفعل في حياتي حسناً.
- والعشار أيضا ولكنه صرخ بإيمان فنزل مبرراًَ.
- ماذا أقول له؟
- مثلما قال اللص، ومثلما قال العشار.
سكت الرجل قليلا .. واغمض عيناه، ظننت أنه راح في غيبوبة.. فرفعت صلاة إلى الهي أن لا تكون هذه هي غيبوبة الموت.. لكنه فتح عيناه وقال:
- يا رب ارحمني أنا الخاطئ.. اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك
ابتسمت وقلت:
- لا تخاف الموت يا صديقي.
وبقيت أنا وهو قرابة الساعتين نصلي ويستمع إلى ترنيمي، وعلمته بعض الترانيم الصغيرة راح يترنم بها بصوته المنهك فقال باسماً.
- هل هذه هي التي سأرنمها في السماء؟
- هناك سيعلمونك ترنيمة الحمل.. إنها ترنيمة رائعة.. ستتعلمها هناك.. الآن تترنم ترانيم الدخول.. هل أنت سعيد؟
- جداً
- إذن رنم معي:
ع السما رايح هنيالي لا بحزن ولاع بالي
ييجي الشيطان يهددني وبالعصيان يلبكني
بقوله روح يسوع معي طبيب الروح شفى أوجاعي
***
وشفيت أوجاع الرجل تماما .. إنه الآن في السماء مع يسوع ، أذكر أنني عندما خرجت من عنده وقابلني الطبيب قلت له:
- لقد انتهي الأمر
- أرأيت أن دماك لم تفده بأي شئ ؟ لقد عاش ساعات قليلة فقط.
- هي أهم ساعات عمره.
- هل كنت له سامرياً؟
- نعم.. وقبل أن يرتاح من أوجاع جسده كانت نفسه وروحه قد استراحت أيضا وإذا دخلت ونظرت إلى وجهه سترى كم هو سعيد.
وخرجت من المستشفى، وركبت سيارتي.. كنت مشغولاً جداً اليوم.. لكني أجلت كل شئ في سبيل ذلك الرجل الذي استقبلته السماء بالفرح.
أدرت سيارتي راجعاً إلى البيت .. فلم يضع اليوم هباء.